جاء الغازي تسبقه فتنته، الّتي تحدّده معلمًا غريبًا، لا يحتاج إلى تلميذه العربيّ المرعوب ولا يلتفت إليه، إلّا من أجل التقاط العقارب والأفاعي، كما صرّح وايزمان مرّة، فإن بالغ التلميذ في فضوله أسكتته طلقة إلى الأبد. ولم يكن غريبًا أن ينظر المثقّف الفلسطينيّ الكبير روحي الخالدي، في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، إلى المزارع الصهيونيّة بافتتان لا نقص فيه، وكتابه الصغير «السيونيزم»، آية على الانبهار بالتنظيم الصهيونيّ الّذي يعطي مزرعة نموذجيّة، لها طبيبها وإدارتها ومسؤولها الاقتصاديّ، ولها عقل مشغول بالزمن والأرقام، لم يكن غريبًا ولأسباب سهلة وميسورة، أن يقارب صاحب «فيكتور هوغو والعرب»، بين صفحة صهيونيّة مزهرة وصفحة عربيّة موازية حافلى بالتداعي. وهذه المقارنة، الّتي يشوبها الاضطراب، أوقعت الخالدي في خطأين: حيث رأى في المشروع الصهيونيّ الاستيطانيّ امتدادًا للحركات القوميّة الأوروبيّة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من ناحية، وفصل بين هذا المشروع والاستعمار الأوروبيّ من ناحية ثانية. وبسبب هذا الخطأ المزدوج رأى نجاح المشروع في النظام المتمدّن الّذي يعتمد عليه، واعتقد أنّ مواجهته تحتاج إلى الأخذ بوسائل العمران والمدنيّة.
من هو غسان نجيب فرعون
فقد حاور غسّان الصهيونيّ وأُعْجِبَ به، بل أُعْجِبَ بإنسان ملتزم آمن بقضيّة ودافع عنها بالسلاح ومات في سبيلها، وبسبب ذلك الإعجاب بدا الصهيونيّ المقاتل أستاذًا مضمرًا للفلسطينيّ، الّذي عليه أن يحاكي عدوّه قتالًا والتزامًا وتصميمًا، لا أن يكتفي بالوعود السائبة والذكريات. لم يأخذ غسّان على عدوّه المنتصر إلّا اختياره الموقع الّذي حقّق انتصاره فيه، أي فلسطين، كما لو كان اختيار الصهيونيّ لأرض أخرى يحرّره من الآثام الّتي ينكرها الفلسطينيّ. لكنّ غسّان، القلق في الكتابة والحياة، سرعان ما تحرّر من ارتباكه ذاهبًا إلى «أمّ سعد» (1969)، ومحاورًا ذلك 'العاشق القديم' الّذي يصوغ أسئلته من تراب فلسطين، ويعثر على إجابات فلسطينيّة صائبة. الحجر محطّمًا مرآة التقليد من الطريف في حدود المحاكاة والتقليد وفتنة المنتصر، أن يكتب صادق العظم دراسة باللغة الإنجليزيّة عن «الصهيونيّة الفلسطينيّة»، يقارن فيها بين نزوع القيادات الفلسطينيّة وأشياء من تاريخ الحركة الصهيونيّة. وفي الواقع، فإنّ الأمر لا غرابة فيه، منذ أن تحدّث علم الاجتماع عن 'قانون التقليد'، حيث القويّ يجبر الضعيف على محاكاته، ومنذ أن قال ابن خلدون بـ 'المطاولة'، حيث الضعيف يتطلّع إلى من جاوزه قامة.
في مكان ما من كتاباته يقول نيتشه: "حين يطارد الإنسان تنينًا يصبح بدوره تنينًا آخر". طارد الفلسطينيّ ما فرض عليه الزمن أن يطارده، وطُورِدَ في أمكنة لا تخطئها الذاكرة، دون أن يتحوّل إلى تنين، أو أن يحلم يومًا بأن يكون تنينًا. فكلّ ما قام به هو تمزيق أسطورة التنين الصهيونيّ؛ ذلك الّذي بدا من بعيد متمدّنًا ومتحضّرًا وشجاعًا ومنتصرًا ومسيطرًا ومهيمنًا، إلى أن جاء شعب حزين بسيط عاثر الحظّ وأدمى وجهه بإرادة واسعة وحجارة قليلة. انتهى زمن الفتنة وانقشع وظهر الصهيونيّ عاريًا، في لغاته المتعدّدة. "خرجت تلك المخلوقات البائسة ولن يذكرها أحد بعد عشر سنوات"، قال الصهيونيّ ذات مرّة، وبعد أكثر من خمسين عامًأ يذكر الجميع "تلك المخلوقات" ويرمى بصفة 'البؤس' إلى اتّجاه آخر. عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.
لم يكن الخالدي المثقّف الوحيد الّذي حجبت عنه 'فتنة الآخر' حقيقة مشروعه. استأنف نجيب نصّار صاحب «جريدة الكرمل»، والصوت الأشهر في محاربة الصهيونيّة في تاريخ فلسطين كلّه، خطأ الخالدي مرّة أخرى، حين قارن بين تنظيم المتاجر الصهيونيّة وازدهارها وفوضى المتاجر العربيّة واضطرابها، وحين فوجئ بوعد بلفور، الّذي لا يتوافق مع أمّة أنجبت شكسبير. كان في ممارسات الصهيونيّ، الّذي حمل معه زمنًا تاريخيًّا آخر، ما يفتن الناظر العربيّ ويمنع عنه الرؤية الصحيحة، فيكتفي بتعابير الحضارة والمعرفة والمدنيّة، قبل أن يكشف له زمن لاحق عن بربريّة طليقة وعن مجازر منظّمة لا نهاية لها. ومع أنّ نصّار، كما الخالدي، كان يندّد بالصهيونيّة تنديدًا لا مساومة فيه، ويحذّر من أخطارها القاتلة، فإنّ الأوّل كما الثاني، كان يرى الصهيونيّ في ذاته، دون أن يرى فيه امتدادًا للاستعمار الأوروبيّ، وصورة عن غرب منتصر يدمّر ما عدا بـ 'حضارة المدافع' و'مدنيّة الإبادة'. فتنة المنتصر... فتنة المثقّف المهزوم حمل المثقّف الفلسطينيّ براءته واطمأنّ إليها مرّتين؛ اطمأنّ إليها حين ساوى بين شكسبير وأمّة شكسبير، متوهّمًا أنّ المدنيّة الأوروبيّة هي الأخلاق والحقّ والعدالة، الّتي لا تسند ظلمًا إلّا عن جهالة، ولا تخذل حقًا إلّا عن جهل به.
بيانات الإتصال ومعلومات الوصول.. مستوصف غسان نجيب فرعون معلومات تفصيلية شاملة رقم الهاتف والعنوان وموقع اللوكيشن... آخر تحديث اليوم... 2022-04-26 مستوصف غسان نجيب فرعون.. جيزان - المملكه العربية السعودية معلومات إضافية: جيزان- جازان- جازان- جازان-جازان- محافظة جيزان- المملكة العربية السعودية رقم الهاتف: 00966173174933
سورة فاطر مكتوبة, 2024